كبير الأثريين: استنساخ التراث المصري وصل إلى “تلصص الهوية”
رئيس منتدى التنمية: نتعرض لحملات شرسة.. ومن حق مصر الحصول على إيرادات من هذه المستنسخات

تحقيق: أميرة بدوي، مريم خالد، روناء علاء الدين

“ومهما كان أنتِ مصر و كل خطوة بنصر” صوت صدر بلهجة مكسّرة من بين أهرامات الجيزة، فمن الوهلة الأولى لم تتوقع أن هذه الحفاوة أتت من طفلة صغيرة غير مصرية، لا تعلم شيئًا باللغة العربية سوى هذا المقطع، التي أخذت تعيد فيه بنظرة شاردة وعيون لامعة، متأملة عظمة الحضارة المصرية، بخلاف الأعداد المهولة التي صادفناها أثناء زيارتنا للأهرامات، مشهد يطرح ببالك آلاف التساؤلات. فمن الذي يستطيع منافسة عظمة تلك الحضارة، مهما برع في التقليد؟
إذا كنت كاتبًا أو صاحب محتوى فكري، فهناك قانون يحمي ملكيتك الفكرية من أي سرقة، أو حتى اقتباس، فكيف الحال بحضارة عمرها ٧ آلاف عام، تتوالى محاولات لاستباحتها اقتصاديًا وسياحيًا، وذلك عن طريق انتشار ظاهرة استنساخ التراث المصري من قِبل دول أخرى، دون إدراج أي اتفاق أو حق انتفاع، وتحقيق أرباح من ورائها، ولعل آخرهم استنساخ الأهرامات بالسعودية، ضمن افتتاح فعاليات موسم الرياض.
وبين آراء تؤيد أنها دعاية مجانية، وأخرى معارضة بداعي سرقة الهوية، يقف فريق “إيوان” بالمنتصف؛ ليحقق.
سرقة أم دعاية؟
“أنت بتزرع، وغيرك يحصد” هكذا علق مجدى شاكر، كبير الأثريين بوزارة السياحة والآثار، على ما وصل إليه ملف استنساخ الآثار المصرية بالوقت الراهن، معللًا ذلك بأن الأمر لم يعد مجرد حالات فردية يمكن التغاضي عنها، فالبعض وصل إلى ما نطلق عليه “تلصص الهوية”، فعند أخذ قطعة أثرية يتم أخذ جزءًا مهمًا من الحضارة التي شكلت هويتنا في الأساس.
وأضاف شاكر، أن خطورة الموقف لا تكمن في العائدات المالية فقط، فنجد أن مصر استقبلت العام الماضي ٧ ملايين سائح بعائدات تصل إلى ١١,٦ مليار دولار، ولكن الأمر يتعلق بعدم وجود قانون دولي يحافظ على الملكية الفكرية لكل دولة، مشيرًا إلى اتفاقية التجارة العالمية “التربس” التي بدأ العمل بها منتصف 1995، والتي من شأنها حماية حقوق الملكية الفكرية الدولية، والتي وصفها شاكر أنها لا فائدة منها، بل يساعد عدم وجود قوانين دولية حاسمة السارق على الإساءة دون حماية صاحب الحق، مثلما حدث بواقعة دهس أبو الهول في فرنسا.
وأردف كبير الأثريين، أننا لا نستطع الجزم بأن كل من يحاكي آثارنا يكون بهدف السرقة، فهناك ما يهدف للدعاية، ولكن يجب توفر عدة شروط أهمها إخطار السلطات المسئولة بالدولة، وأخذ تصريح رسمي يفيد بكل ما يتم تنفيذه، وعدم الإساءة أو تشويه ما يتم محاكاته، مع ضرورة استفادة الدولة صاحبة الأصل بعائد مادي، وعلى من يخالف ذلك يتم مقاضاته.
وفي هذا الصدد أكد المحامي محمد ظافر، أن مصر قد أصدرت قانون حقوق الملكية الفكرية رقم 82 لسنة 2002، الذي ينص على حق مصر في مقاضاة أي دولة تقوم باستنساخ الآثار دون موافقة رسمية من وزارة الآثار المصرية، خاصة بموجب المادة ١١٣ التي تنص على عقوبة كل من يضع بقصد علامة تجارية مملوكة لغيره على منتجاته.
وأكد ظافر، أن هذا ليس القانون الوحيد الذي يجرم الاستنساخ، فنجد أن استنساخ الآثار يخالف أيضًا المادة ٣٩ من قانون حماية الآثار رقم ١١٧ لسنة ١٩٨٣، والذي ينص على إمكانية إنتاج المجلس الأعلى للآثار لنماذج أثرية حديثة مستنسخة على أن يتم ختمها منه، أو بالتعاون مع أي جهة يحددها بإنتاج هذه النماذج طبقًا للمواصفات والشروط التي يحددها.
وأوضح أنه في حال مخالفة ذلك خاصة إذا وجد إساءة لهذا التراث، أو محاولة نسبه للدولة الناسخة، تستطيع مصر اللجوء لمحكمة العدل الدولية للفصل في الأمر.
الاقتصاد السياحي
وعلى جانب آخر، أكد أحمد خزيم، رئيس منتدى التنمية والقيمة المضافة والخبير الاقتصادي، أن مصر تمتلك حوالي ١٢ مليون من القوى العاملة بمجال السياحة من فنادق، وبازارات، ومزارات سياحية، وغيرها، فإذا لم يكن هناك قوة ضابطة لهذا الاستنساخ، فبالطبع سوف نتأثر اقتصاديًا على المدى البعيد، فنجد أن هناك دول عظمى مثل إسبانيا، تعتمد على الاقتصاد السياحي كمصدر أول للدخل، بما يساوي دخل المنطقة العربية بالكامل بما فيها من تصدير البترول والغاز الطبيعي، و نجد أن فرنسا تحصد سنويًا من برج إيفيل أكثر من 435 مليار يورو، فإذا كانت الدول العظمى تتأثر هذا التأثر الكبير بالدخل السياحي، فكيف الحال بالدول النامية وكيف بنا ألا نتأثر بهذا الاستنساخ؟
وأضاف خزيم أن مصر تتمتع بممتلكات أفضل عشرات المرات من التي توجد بإسبانيا، ولكننا نتعرض لحملات شرسة تحاول مشاركتنا فيما نتملك من آثار، فنجد أن مدينة لاس فيجاس تحصد سنويًا 80 مليار ونصف يورو؛ بسبب مستنسخات الآثار المصرية، وبدون أي استفادة تعود لمصر “فأين حق مصر؟”.
وأكد خزيم أنه على من يدير هذا الملف التوجه إلى دول الفوائض، فهذه الدول تتغير من أوروبا إلى أمريكا، وحاليًا الصين، ففي العام الماضي امتلكت الصين حوالي ١٦٠ مليون سائح، فإذا استهدفنا منهم ١٠ ٪ فقط سنويًا، سوف نتمكن من توفير ٨ مليار دولار من دولة واحدة.
واستكمل أنه لا يوجد قانون دولي من شأنه تحديد عوائد أرباح دولة المنشأ من المستنسخات، فإذا لم تنصفنا منظمات الملكية الفكرية، فيجب على الدول المستنسخة أن تعطي مصر حقها من خلال تحديد نسبة من إيرادات هذه المستنسخات، حتى إذا كان بموجب اتفاق ودي، أو على الأقل الدعاية لبلد المنشأ من قِبل إعلام الدولة وهذا أقل حقوقنا.
صناعة المستنسخات
وفي ظل محاولة نثر الآثار المصرية بين دول العالم، كان يجب أن تكون هناك منصة بمثابة الدرع الرسمي لحماية ذلك التراث وحقوق ملكيته، وقد تحقق ذلك بافتتاح أول مصنع للمستنسخات الأثرية بالمجلس الأعلى للآثار.
وصرح لنا عمرو الطيبي، المدير التنفيذي لوحدة النماذج الأثرية “المستنسخات” بوزارة الآثار، أن مصر تمتلك أكبر مجموعة أثرية لها قيمة كبيرة على مستوى العالم؛ مما دفعها لإنشاء مصنع المستنسخات الأثرية، كما جاء ذلك المشروع لإحياء تراثنا بأيدي وعمالة مصرية، بالإضافة إلى المردود الاقتصادي ومواجهة حملات تشويه الآثار المصرية.
وأضاف الطيبي أن كل مستنسخ أثري يتم تمييزه بختم خاص بالمجلس الأعلى للآثار، مما يتيح لكل سائح محب للآثار والحضارة المصرية القديمة، اقتناء قطعة أثرية يحتفظ بها عند عودته لبلده كتذكار.
واستكمل المدير التنفيذي، أنه يتم العمل على إنتاج نماذج أثرية على مستوى عالٍ من الدقة، بإشراف مصري كامل، بالإضافة إلى نماذج أثرية تم تجهيزها لعرضها بمتاحف عالمية، مما يعتبر تسويقًا لحضارة مصر القديمة.
نيران معادية
لم تكن فكرة استنساخ الآثار بالشيء الحديث على الساحة العالمية، لاسيما المصرية منها، فقبل أهرامات السعودية كان تمثال أبو الهول بالصين عام ٢٠١٤، الذي تم استنساخه بصورة مشوهة لمقاييس التمثال الأصلي، ولكنهم برروا ذلك بأن التمثال تم تشييده ليكون جزءًا من مشهد بفيلم سينمائي، بعدما رفعت مصر دعوة قضائية، مستندة إلى الفقرة الثالثة من المادة السادسة لاتفاقية “اليونسكو”، الموقعة عام ١٩٧٢، لحماية التراث العالمي والثقافي والتي تنص على “تعهد كل من الدول الأطراف في هذه الاتفاقية، ألا تتخذ متعمدة أي إجراء من شأنه إلحاق الضرر بصورة مباشرة أو غير مباشرة بالتراث الثقافي والطبيعي الواقع في أقاليم الدول الأخرى الموقعة على هذه الاتفاقية”، وتم إصدار قرار لصالح مصر، وتم هدم أبو الهول بالصين.
ولكن الأمر لم يتوقف عند الصين فقط، فبعد ثورة ٢٥ يناير، قام الكيان الصهيوني ببناء نماذج لمستنسخات أثرية فرعونية، منها تمثال أبو الهول وأهرامات الجيزة بصحراء النقب، في إطار فعاليات “مهرجان الصحراء”، مما أدى إلى تعديل قانون الآثار المصري، والذي أعطى الحق للمجلس الأعلى للآثار في استنساخ الآثار، أو منح هذا الحق لمن يشاء، وفق اتفاقات مسبقة”.
وكذلك معبد “أبو سمبل” بإسبانيا، الذي يحاكي معبد الملك تحتمس الثالث، وفندق “الأقصر” بمدينة لاس فيجاس الأمريكية، والذي يعتبر نسخة مقلدة لمدينة الأقصر المصرية من معابد ونقوش حتى التماثيل.
فإذا تحدثنا عن المستنسخات المصرية بدول العالم، القائمة ستطول، ولكن المشترك الرئيسي بينهم أن مصر لا تحصل على أي عائد أو حتى إذن، على عكس الدول الأخرى.
ولعل أبرز مثال على ذلك عندما دفعت الإمارات العربية لفرنسا مبلغًا كبيرًا للموافقة على إنشاء نسخة من متحف اللوفر بها.