باحثة تراثية: كيف نجهل قيمة ما يميزنا بسهولة؟
استشاري تربوي: إهمال الثقافة يمكن أن يؤثر سلبًا على الهوية الوطنية

تحقيق: مريم خالد- أميرة بدوي- ندى أحمد- ريم محسن

تتميز أغلب محافظات مصر بتكوين ثقافي يميزها ويخلق لها هوية مختلفة ومع ذلك لا يؤثر على الترابط بين الشعب، بل يجعله مميز بحيث يمكنك معرفة محافظة الشخص من ملابسة أو لهجته، ولكن ماذا يحدث إذا تخلى الجيل الحالي عن هذا؟ بمعني إذا أصبحنا جميعًا نتحدث بلهجة أهل القاهرة ونرتدى ملابس “على الموضة”، وبالطبع نستمع إلى الأغاني الأجنبية. هل ذلك سيصبح بمثانة تخلي على الثقافة وهدم للهوية المصرية؟
كل هذه التساؤلات تدور في أذهاننا مما دفع فريق “إيوان” إلى مناقشة هذه المشكلة التي قد تواجه مجتمع بأكمله حتى نصل إلى يوم نصبح فيه بلا هوية، ولذلك اخترنا ثلاث عوامل أساسية للثقافة وهم الملابس، اللهجة، والموسيقى لنعرف هل بالفعل تخلى الجيل الحالي عن ثقافته، وما سبب حدوث ذلك؟، وما يمكننا فعله لتجنب هذه المشكلة؟
الملابس التراثية
“كنت أبحث عنها وكأني أنقب عن معادن ثمينة ملقاه على الأرض ولا يُلقي لها المارة اهتمامًا، كأنها حجارة بثمن بخس أو شيء مبتذل”، كانت هذه الجملة التي قالتها علا الطوخي، باحثة ومؤلفة كتاب الأزياء في الثقافة الشعبية، بمثابة وصف دقيق لما يفعله الجيل الحالي بملابسنا التراثية.
إذ ذكرت الطوخي، أن خلال إجراء بحثها في الملابس الشعبية بمختلف جوانب محافظات الوجه البحري، كانت تسأل الناس في القرى والكفور عن أماكن الناس التي مازالت ترتدي زي تقليدي شعبي، وكان أهل المنطقة يستنكرون هذا ويقولون الجملة الشهيرة التي ترددت كثيرًا “محدش بقا بيلبس اللبس ده إحنا هنا متمدنين”.
واستكملت الطوخي، أن هذه جملة قاسية جدًا، لأنها رأت على ملامح قائلها الكثير من التبرؤ من أهم العلامات المميزة للقرية المصرية.. فكيف نجهل قيمة ما يميزنا بهذه السهولة؟
وقالت الطوخي أيضًا، إنه عند النظر بتمعن للثياب الشعبية نجد كل محافظة، بل كل قرية لها ملامح ليس لها مثيل في العالم، تميز الشعب وتروي حكايات كثيرة مرت على من يرتديها في كل شبر “كأنك في متحف مفتوح”.
وأردفت الباحثة، أن تاريخ الشعب وأمانيه وأمنياته كانت تسجل في الحضارات القديمة على ثياب، مما يؤكد أن الأزياء الشعبية مهما بلغت من بساطة في مظهرها وسذاجتها للبعض في طريقة تفصيلها، فإنها تعتبر جزءًا من تراثنا القومي ودعامة من دعائم تاريخنا، مؤكدة أن تجاهلها وعدم فهم أصولها قبل تطويرها أو التخلي عنها واستبدالها سوف يتلاشى تدريجيًا، ومن ثَم يأتي الوقت التي ستصبح فيه قلة قليلة نادرة بدرجة تشعرنا بأنها غربية عن موطنها.
وفي هذا الإطار أوضحت أن الملابس فن يزيد ويتطور وينقص ويتأثر صانعه بالمحيطين، وبالتالي هناك تسابق شديد من الأجيال الحالية لمحاكاة الذوق الأجنبي المتدفق داخل مصر، وزاد الأثر الأجنبي في عادات وتقاليد الناس ولغاتهم أيضًا، وكذلك ذوقهم في الملابس وتحريف معايير الجمال.
وتمنت الطوخي، أن تعود الأزياء المصرية منتشرة بين العامة، وتصبح جزءًا من العادات المصرية، ولكن هذا يحملنا جميعًا الكثير من المسئولية والمعرفة، والتعريف بها وبأهميتها وبكل ما تحمله من تاريخ وهوية وقيمة وخير، لكنها من وجهة أخرى من المحال أن تعود أبدًا، وذلك بحكم تغير الأجيال ودورة الزمان.
اللهجة المصرية
هل تتوقف الثقافة على الملابس؟ بالطبع لا فلا يوجد أبرز من لهجات المحافظات لأهل مصر لتشكل ثقافة مميزة على مر السنين، ولكن على الرغم من تعددها، إلا أننا نجد في الفترة الأخيرة أن أغلب الشباب يحاولون التبرؤ من لهجة محافظتهم والاتجاه إلى اللهجة القاهرية حتى يظهروا كسكان المدن اعتقادًا منهم أن ذلك يجعلهم أفضل، والحقيقة أن ذلك يؤثر على ثقافتهم ويُفقدهم هويتهم.
وفي ذلك الإطار، قال الدكتور أيمن عثمان، باحث في التراث، وصاحب موسوعة “تراث مصري”، إن اللهجات في مصر تتعدد من الإسكندرية لأسوان، فنجد على بعد كل كيلو من أرض مصر مفردات تظهر وأخرى تختفي لتظهر لهجة مختلفة مما يؤكد على التنوع الثقافي، حيث استطاعت الحضارة المصرية استيعاب العديد من المفردات وخلق اللغة المصرية أو اللهجة العامية التي تميز المصريين.
واستكمل، إنه على الرغم من تعدد اللهجات إلا أن هناك خوف من توحد اللهجة كلها من الجنوب حتى الشمال، إلى اللهجة القاهرية التي تفتقر إلى التنوع مقارنة بباقي المحافظات، لأن لهجة أهل المدن، مثل القاهرة والمدن الكبيرة عمومًا تكاد تكون ثابتة ومنفصلة انفصال كُلي عن لهجات الريف ولهجات المحافظات الأخرى، وبالتالي ذلك يفقدنا الكثير من موسيقانا ودراماتنا وعاداتنا وثقافتنا ككل، ولذلك من الضروري على الأجيال الموجودة حاليًا الاهتمام باللهجة الخاصة بهم لأنها مُشكّل للعبقرية المصرية.
وأشار الباحث، إلى أن هناك بعض المحاولات الفردية التي يرى أنها محاولات ذكية، وإن كانت لا تكفي، هي وجود عدد من الصفحات لدعم لهجات المحافظات فنجد أهل الشرقية ينشئون صفحة يحاولون من خلالها الترويج للهجتهم، وآخرين يحاولون الترويح لمفردات النوبة، ومن الممكن أن تكون هذه المحاولات بداية مبشرة، ولكنها تحتاج إلى دعم مجتمعي، وذلك لأن اللهجة جزء أساسي من الهوية المصرية يلزم المحافظة عليه.
وأكد عثمان، على أننا في أمسّ الحاجة لتربية الناشئين على اللهجات الخاصة بمحافظتهم لتجنب اندثارها، فمن المقلق أن يأتي يوم نجد جيل في أسوان لا يعرف التحدث بلهجة الجنوب، فالشباب لم يعد لديهم اهتمام بتعلم لهجة أجدادهم، وبالتالي يزداد الخوف من اندثار اللهجات المميزة، لأن لهجتنا ولغتنا وثقافتنا جزء من قوة مصر الناعمة التي تتصدر للخارج وتظهر حتى في الدراما وتعطي تنوع مثل لهجات أهل الصعيد وإسكندرية فبمجرد التفكير في اندثارها في يوم ما يُفقد مصر قيمة كبيرة من ثقافتها التي تميزها.
الموسيقى التراثية
أما بالنسبة للموسيقى والأغاني فهما جزء أساسي من الثقافة المصرية فنجد تنوع في الآلات والموسيقى، ولكن بوجه عام بمجرد سماعهما يمكنك معرفة الآلة المُستخدمة، والمحافظة التي انطلقت منها هذه الأغنية، ولكن ماذا لو تجاهلنا كل هذا واتجهنا إلى الأغاني الأجنبية؟
فأجاب عن هذا الدكتور أشرف عبد الرحمن، أستاذ النقد الموسيقي بأكاديمية الفنون، وقال إن إهمال الجيل الحالي لموسيقاه الشعبية يؤثر على الهوية الثقافية، ولكن بشكل غير مباشر لأن الثقافة المصرية قد تمرض، ولكن لا تموت ولا تُمحى، ويمكن أن تتأثر أيضًا، ولكن لا تُلغى، مؤكدًا على أن تجاهل الجيل الحالي لموسيقاه وتراثه قضية كبيرة، حدثت بسبب تواجدنا في عالم مفتوح، وتداخل الثقافات، وأصبح الشباب يميل إلى الغرب وسماع موسيقاهم مما أدى إلى التأثير على ثقافتنا وهويتنا المصرية.
وذكر عبد الرحمن، أنه من المعروف أن لكل بيئة ثقافتها المختلفة عن البيئات الأخرى، وبالتالي نجد لكل محافظة موسيقاها الخاصة بها، فنجد في مدن القناة آلة السمسمية هي الغالبة والأغاني التي تميزهم أغاني خاصة بالضمة وإيقاع خاص بالسوايسة وهذه المدن الساحلية، وذلك يختلف عن الموسيقى في الصعيد حيث يعتمدوا على الربابة، وغناء المواويل، والأشعار، والحِكم.
وأضاف أستاذ النقد الموسيقي، أن كل بيئة لها الموسيقى الخاصة به وجه بحري ووسط الدلتا وإسكندرية كذلك، وتعرف بالموسيقية الشعبية المميزة لهذه المنطقة، وفقًا للطبيعية الجغرافية، والثقافية، والبيئة المحيطة، لأن كل هذه العوامل تؤثر في موسيقى هذه الأماكن، وتنوع الموسيقي من منطقة لأخرى يشكل في النهاية ما يعرف بالثقافة أو الهوية المصرية بحيث يصبح لمصر كيان خاص بها كموسيقى، ولذلك نجد موسيقى مصرية تراثية خلقت ثقافة مختلفة تميز محافظات مصر.
من الطبيعي أن تختفي أنواع موسيقية وتظهر أخرى، وذلك ما أكده الدكتور أشرف عبد الرحمن، ففي القرن الـ 19 كان هناك الموشحات والأدوار، ولكن كان هناك أسباب عديدة أدت إلى اندثارهم نهائيًا في فترة الثلاثينات في القرن الـ 20، وذلك بسبب ظهور ألوان غنائية أخرى، ولكن هذا طبيعي فكل فترة من الفترات يلزم أن يُصاحبها تغير ليس بالضرورة أن يكون للأسوأ فمن الممكن أن يكون للأفضل.
واهتمام الدولة جزء مهم في إحياء التراث وهو متمثل في وزارة الثقافة، والفِرق الموجودة بدار الأوبرا المصرية، وقصور الثقافة التي تحتوي على العديد من الفرق التي من المفترض أن دورها الأساسي إحياء تراثنا الموسيقى وتعليم الشباب وتعريفهم بموسيقانا الشعبية.
عولمة الألفية
مازال التساؤل قائم، ويدفعنا للبحث أكثر وأكثر عن سبب تخلّي الجيل الحالي بشكل أو آخر عن ثقافته التي تشكل هويته، واتجاهه إلى ثقافات أخرى قد تكون أضعف بكثير من ثقافته؟
وفي هذا الإطار كشفت الأستاذة هبة غازي، استشاري أسري وتربوي، أن الرغبة في مواكبة التطور والتكنولوجيا قد تكون أحد الأسباب التي تجعل الأفراد يهملون ثقافتهم الأصلية، وينجذبون إلى العناصر الثقافية العالمية والعصرية على حساب الثقافة الأصلية، مما يؤدي إلى تقليل الاهتمام بالتراث والتقاليد المحلية.
وذكرت غازي، أنه يمكن اتخاذ عدة خطوات لتشجيع الجيل الحالي على التمسك بثقافتهم والدفاع عن هويتهم، ومنها على سبيل المثال توفير الفرص للتعلم والتعرف على التراث الثقافي من خلال المدارس والجامعات، وتنظيم فعاليات ثقافية متنوعة مثل المعارض والمهرجانات والحفلات الموسيقية التي تعزز الفهم والتقدير للثقافة المحلية، وأيضًا دعم المبادرات الشبابية التي تعمل على الحفاظ على التراث الثقافي وتعزيز الهوية المحلية.
واستكملت أنه يكمن أيضًا استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام لتعزيز الوعي بالثقافة المحلية وتشجيع المشاركة في النقاشات المتعلقة بها، وتشجيع الأسر على نقل القيم والتقاليد الثقافية إلى الأجيال الجديدة من خلال الحوار والتفاعل الاجتماعي.
وفي النهاية، أشارت الاستشاري التربوي، إلى أن إهمال الثقافة يمكن أن يؤثر سلبًا على الهوية الوطنية، لأن الثقافة تشكل جزءًا أساسيًا من الهوية المصرية وتعبر عن تاريخ وقيم المجتمع، لذا يساهم الاهتمام بها في تعزيز الانتماء والتماسك الاجتماعي، بالإضافة إلى ذلك، تساهم الثقافة في تعزيز الوعي والفهم بين أفراد المجتمع وتعزز التفاهم الثقافي بين الأجيال المختلفة، مما يعزز الانسجام والتعايش السِلمي.